الموجز اليوم

مصطفى صلاح يكتب: الوجه الذى يشبه الوطن..حمدى إسماعيل وظل المشير فى عينيه

حمدي إسماعيل
-

كأنما خرج من قلب الزمن، لا من استوديو تصوير.. كأن عينيه تحفظان حكاياتٍ لم تُروَ، وصوته مرآة لرجالٍ عبروا الحياة دون أن يطلبوا منها شيئًا سوى أن تبقي لهم وجوههم كما هي: صادقة، عفية، لا تخونها الأقنعة.

حمدي إسماعيل ليس مجرد ممثلٍ مرّ على الشاشة ومررنا عليه، بل هو وجهٌ من وجوه مصر التي لا تغيب.. رجلٌ من طين هذه الأرض، من وهجها الهادئ، من نبضها الكامن.

حين تراه، تشعر أنك تعرفه من قبل، لا لأنه مشهور، بل لأنه حقيقي..وجهٌ يعبر بك الزمن دون أن تشعر، يأخذك إلى شوارع فرّ منها الضجيج، وبيوتٍ لا تزال تعيش بالمحبة لا بالأثاث.

منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وهو ينسج لنفسه مكانًا على هامش المجد، لا يزاحم، لا يصيح، لا يدق على أبوابٍ مُغلقة.

هو الفنان الذي لم يرفع صوته لأن صوته في الداخل أعلى، ولم يجرِ خلف دور لأن الدور يعرف طريقه إليه إن كانت النوايا صافية.

علي أيدي رواد الاخراج ، نبتت موهبته، جلس عند أقدام العمالقة لا ليتعلم التكنيك، بل ليتنفس الفن كما يُستنشق الهواء مع نور الدمرداش، كان التكوين، حيث الصرامة تشبه المحبة، وحيث كل مشهد يُعامل كأنه مشهد العمر.. ثم فتح له إسماعيل عبد الحافظ أبواب الحكاية، وعلّمه كيف تتحول الكلمة إلى حياة، والمشهد إلى نبض، والبطل إلى إنسان ،ثم جاء مجدي أبو عميرة، فنقل عنه روح الواقعية العاطفية، ذلك الخيط الرقيق بين أن تؤدي الدور، أو أن تعيشه.

ولأنه من طينة نادرة، جذب إليه أيضًا أنظار الكبار ممن لا يُخطئون الموهبة الصافية، وفي مقدمتهم الزعيم عادل إمام، الذي شاركه حمدي إسماعيل في أعمال ظلّت في الذاكرة، مثل "العراف" و"مأمون وشركاه"، وترك خلالها بصمة هادئة لا تزول.

لم يكن الظهور بجانب الزعيم مجرد فرصة، بل شهادة غير مكتوبة على موهبة تستحق أن تُرى.. لقد كان حضوره في هذه الأعمال شبيهًا بالموسيقى الخلفية في مشهد عظيم: لا تتصدر الصورة، لكنها ترفعها.

لم يكن حمدي إسماعيل ممثلًا "يشتغل" في الدراما، بل كان جزءًا منها. ملامحه كانت تلائم كل زمن، وصوته يصلح لكل شخصية، وعينيه تفتحان أبوابًا لا تُرى. ورغم كل هذا، ظل في مكانه، لا لأنه لا يستحق الصعود، بل لأن هذا العصر لا يُجيد الإنصات للقلوب الصامتة.

تشعر وأنت تراه أنه خرج من رحم شخصية وطنية كبرى، ولهذا لم يكن غريبًا أن يرى فيه الناس شبهًا عجيبًا بالمشير محمد حسين طنطاوي، لا في الملامح فحسب، بل في الوقار، في السكون المهيب، في الجدية التي تخفي خلفها بحرًا من العواطف النبيلة. حتى حلمه بتجسيد شخصية المشير لم يكن طموح ممثل، بل رجاء وطني، كأن الفن يستدعيه لاسترداد بعض من هيبة الصورة وصدق الحكاية.

يحبّه كل من عرفه في الوسط الفني، لا لأنه يضحك كثيرًا، بل لأنه لا يزيف مشاعره.. يُحبونه لأنه إنسان لا يساوم، عزيز النفس، لا يعرف المجاملة، ولا يطلب شيئًا لا يليق به.. نقيّ السريرة، واضح النبرة، يدخل اللوكيشن كما يدخل المصلى: بخشوع. يقدّس العمل، ويمنحه من روحه، كأن كل دورٍ هو آخر أدواره، وكل مشهد هو رسالته الأخيرة.

ورغم كل ما قدّمه، لا يزال في حاجة إلى من يعيد اكتشافه ،لا كتلميذٍ نجيب، بل كأستاذٍ صامت ظلّ في مقعد الصفوف الخلفية تواضعًا، لا لضعفٍ في العطاء.. فكم من وجوهٍ ضجّت بها الشاشات، لم تترك في القلب ذكرى، وكم من حمدي إسماعيل خسرناه لأن الضوء انشغل بغيره.

تتعدد الأدوار، وتتغير الموضات، وتختلط الأصوات، لكن بعض الوجوه تظلّ كالمرايا القديمة لا تفقد بريقها مهما علاها الغبار. هكذا هو، يحمل في صوته شجن الزمن الجميل، وفي حضوره دفء الأزمنة التي كانت تشبهنا، لا يستعرض، لا يتكلّف، بل يترك الشخصية تلبسه حتى تنسى من هو، وتبكي معه، دون أن تدري أنك تبكي عليه أيضًا، لأنك تعرف أن مثله لا يُنصف كثيرًا في هذا العالم.

إنه ممثلٌ يعرف حجم موهبته، لكنه لا يبيعها، يعرف أن له مكانةً، لكنه لا يطلبها.. ينتظر أن يراه الفن لا السوق، وأن يطلبه الإبداع لا الخطة التسويقية، لا يحتاج لمن يقول "أعطوه فرصة"، بل لمن يقول: "كيف غابت عنّا هذه القامة كل هذا الوقت؟"

في داخله نارٌ هادئة، حلمٌ لم ينطفئ، رغبة لم تهرم، وهو إن قال إنه يريد أن يجسّد شخصية المشير طنطاوي، فلا تطمع في دور البطولة، بل في بطولة المعنى. يريد أن يخلّد بطلاً مصريًا كما يليق، لا بفخامة الإنتاج وحدها، بل بصدق الأداء، ويريد أيضًا أن يفتح نافذة صغيرة له على عالمٍ نسي أنه موجود، رغم أن فنه لم يغب.

في وقتا صارت البطولة فيه وجبة سريعة، والنجومية وميضًا مؤقتًا، نحتاج إلى فنانين مثل حمدي إسماعيل، الذين يعرفون أن الفن ليس مهنة، بل رسالة، وأن الوجوه التي لا تتغير، هي تلك التي لم تتلوّن.

كأن الله وهبه هذه الملامح لا ليكون فنانًا فقط، بل ليكون شاهدًا على زمن لم يَعُد فيه "الحق" كافيًا لرفع الصوت، وعلى واقعٍ كثيرًا ما ظلم من يستحق، ورفع من لا يملك.. لكنه ظلّ، كعصفورٍ يقف على نافذة القلب، يغني دون أن يطلب شيئًا، يترك أثرًا دون أن يسأل: هل سمعني أحد؟

إنه فنانٌ لا ينسى، حتى لو غاب عن الشاشة. فالشاشة تنسى أحيانًا، لكن القلب لا ينسى من صدق.