الموجز اليوم
الموجز اليوم

مصطفي صلاح يكتب: صادق الصباح..المنتج الذى صاغ ذاكرة الدراما العربية

-

في دروب الحكايات الممتدة عبر شاشة العرب، يسطع إسم يذكِّرنا بما تبقى من زمن الفن النبيل، إسم يتردد في المجالس والمنتديات، على ألسنة عشاق الدراما، ويستعيدون معه صورة المنتج الذي لا يكتفي بتمويل العمل، بل يضع روحه فيه، كأنما يشارك في نسج الخيوط الدقيقة، لا مجرد مراقب من بعيد..إنّه صادق الصباح، رجل حمل إرثًا عائليًا وتاريخًا ممتدًا، ليحوِّل الإنتاج الدرامي إلى فعل إنساني يلامس وجدان الجمهور، ويستحضر جذور المشرق العربي في كل مشهد، في كل كلمة تُقال.

ليس من قبيل المصادفة أن يُكتب لاسم "الصباح" أن يتجذّر في ذاكرة الفن العربي، فالمنتج اللبناني الذي وُلد في حضن عائلة احترفت هذا المجال منذ عقود، خرج إلى الساحة وفي جعبته إيمان بأن الدراما ليست لهوًا عابرًا، بل مرآة أمة، وكتابٌ مفتوح على عذاباتها وأحلامها.. في كل مشروع يخوضه، تبدو ملامح هذا الإيمان، وكأننا أمام صاحب رسالة لا يكتفي بالمكسب المادي، بل ينشد أثرًا أبقى، يضيء القلوب قبل أن يملأ الشاشات.

حين نعود إلى تاريخ صادق الصباح، نجد أننا لسنا أمام منتجٍ عاديٍ، بل أمام رجل حمل على كتفيه مهمة شاقة: إعادة الإعتبار للدراما العربية في زمن طغت فيه السطحية، وسادت لغة الاستسهال. ولأن الطريق كان طويلًا، مضى بخطوات ثابتة، فأسّس شركة حملت اسم العائلة، "صبّاح إخوان"، لتصبح خلال سنوات منارات بارزة في سماء الإنتاج، تُبنى عليها جسور بين القاهرة وبيروت، بين دمشق ودبي، بين كل مدينة عربية وأخرى، حتى باتت الدراما التي يقدّمها مرآة تعكس صورة العروبة بثرائها وتناقضاتها.

ما يميز صادق الصباح عن غيره من أبناء المهنة أنّه لم يترك نفسه رهينة حسابات السوق وحدها، بل ظل وفيًا للبُعد الفني والجمالي، يختار النصوص بعناية، وينتقي الممثلين كما ينتقي الشاعر كلماته. لذلك جاءت أعماله متعددة، متباينة، لكنها دائمًا تحمل ختمه الخاص، كأنها نقش محفور على صخرة الزمن.

من الدراما اللبنانية إلى المصرية، من الأعمال الاجتماعية إلى الوطنية، كان الرجل يضع يده على نبض الشارع، يستمع إلى صدى الناس، ثم يترجمه إلى صور متحركة تحفظ أرواح الأزمنة.

في القاهرة، حيث يتقاطع تاريخ الفن مع روح النيل، كان حضوره طاغيًا، فالمشاهد المصري الذي اعتاد أن يكون هو المقياس، وجد في أعمال الصباح مزيجًا من الأصالة والمعاصرة.

لم يكن دخوله إلى السوق المصري مغامرة، بل كان خطوة محسوبة لرجل يعرف أن مصر هي قلب الدراما العربية، وهناك رسّخ حضوره عبر أعمال لاقت رواجًا واسعًا، وصار اسمه مرادفًا للجودة، وارتبطت شركته بكبار النجوم الذين وجدوا فيه سندًا، وراعياً للفن في زمن عزّ فيه الرعاة.

أما في لبنان، فكان بمثابة حارس الذاكرة، حافظ على حضور الدراما اللبنانية في محيط عربي صاخب، ونجح في نقلها من الإطار المحلي الضيق إلى الفضاء الأوسع.

وفي كل عمل، كنا نشعر أنه يقاوم فكرة الانكسار، يصرّ على أن تبقى بيروت حاضرة في الوجدان، مدينة تُبدع وتمنح، رغم جراحها.

ولأن الرجال يُعرفون بمواقفهم، فإنّ صادق الصباح لم يتوانَ عن الانحياز للدراما التي ترفع وعي الناس، وتستدعي قيم التضحية والانتماء، في أعماله، نجد البطولة ليست محصورة في الفرد، بل موزّعة على وجوه كثيرة، تمامًا كما في الواقع. ربما لذلك أحبّه الجمهور، ورأى فيه صورة المنتج الذي لا يركض خلف الضوء، بل يمنحه للآخرين.

لغة الرجل في أحاديثه تكشف عن جوهر شخصيته؛ فهو لا يتحدث عن الفن بلغة التجارة وحدها، بل يراه مشروع حياة.. يتكلم بصدق، بعينين تلمعان كمن يعرف أن ما يفعله ليس إلا امتدادًا لجذور قديمة، وأنه مجرد حلقة في سلسلة ستتواصل. هذا الإيمان هو ما جعل اسمه عصيًّا على النسيان، حاضرًا في وجدان المشاهد كما في كواليس المهنة.

إنّ المتأمل في تجربة صادق الصباح، لا بد أن يرى أن الرجل جسّد معنى "المنتج الراعي"، الذي يحيط العمل من كل جوانبه، يوازن بين الفن والتسويق، بين الجمال والواقع. وهذه المعادلة النادرة، هي سرّ بقائه، وسرّ ما تركه من أثر لن يمحوه الزمن.

وحين ننظر إلى مشواره الطويل، ندرك أن ما أنجزه ليس مجرد رصيد من الأعمال، بل هو تاريخ حيّ، يُضاف إلى ذاكرة العرب، تمامًا كما تضاف المخطوطات النادرة إلى خزائن التراث. في كل مشهد من أعماله، هناك رائحة زمن، وهناك توق للغد، هناك وجوه أبطالٍ يضيئون لنا الطريق، وهناك أيضًا توقيع رجل آمن بالفن حتى النهاية.

يبقى صادق الصباح شاهدًا على مرحلة من أنبل مراحل الإنتاج العربي، رجلًا صاغ للأمة مراياها الصغيرة، لتطلّ على نفسها وتتعرف إلى ملامحها في زحمة الأيام، وإن كان للدراما أن تحتفي بفرسانها، فإنّ هذا الرجل يظلّ واحدًا من فرسانها القلائل، الذين لم يتنكروا لجوهرها، بل ظلّوا أوفياء لها، حتى غدت أعماله بمثابة أثر خالد، يروي للأجيال حكاية عصر بأكمله.