الموجز اليوم
الموجز اليوم

مصطفى صلاح يكتب: الرحيل الذى أوجع الأرواح..مرثية لأخى ”جمال”

-

لم يكن رحيلك يا جمال حدثاً عابراً يمكن أن يُطوى في صفحة من صفحات العمر، بل كان فاجعةً اخترقت القلب حتى تفتّت، وخلّفت وراءها ندبةً لا تندمل مهما مرّت الأيام.

رحلتَ كأنك تسابق الريح، كأنك على موعد مع الغياب، وتركتنا وراءك نهوي في لجةٍ من حزنٍ لا قاع له.

منذ أن أُسدل ستار الموت على وجهك، انطفأ فينا الضوء، وذبلت في العيون بسمات الحياة، ما أشد قسوة أن نبحث عنك في تفاصيل البيت، في رائحة ملابسك، في صدى خطواتك، فلا نجد سوى الفراغ، ما أقسى أن أمدّ يدي فلا أجد يدك، أن ألتفت فلا أراك، أن أستيقظ كل صباح على يقين أنك لن تعود.

كنتَ يا جمال أكثر من أخ، كنتَ الروح الثانية التي أستند إليها، والجدار الذي احتميتُ به في مواجهة رياح الدنيا، كنتَ البسمة التي تُخفف الوجع، والكلمة التي تبعث الرجاء، والظل الذي يرافقني في دروب الحياة،واليوم، وقد غبتَ عنّا، صار كل شيء بارداً، ساكناً، كأن الزمن توقف عند لحظة الفقد، لا يريد أن يمضي.

أيها الغائب، يا من تركتني وحيداً في مواجهة الليل الطويل، ماذا أفعل بوجعي؟ كيف أواجه هذا الخراب الذي حلّ داخلي؟ لقد أخذ الموت جسدك، لكنه تركني نهباً لغيابك، أعيش نصف حياة، أتأرجح بين ذكراك وبين واقع لا أحتمله.

أبكيك بكاءً لا ينقطع، وأصرخ في صمتي صرخةً لا يسمعها أحد. أكتب إليك لأن الكتابة صارت المتنفس الوحيد لروحي المثقلة، صارت الدموع حروفاً، وصار الألم جملاً تتساقط فوق الورق.. ليتني كنت أستطيع أن أستعيدك بالكلمات، أن أستحضر صوتك بين السطور، أن أرى ملامحك ترتسم بين الحروف.

يا جمال، ما أشد وحشة الفقد! كنتَ ملاذي حين تضيق الدنيا، وها أنا الآن بلا ملاذ، كنتَ سندي، وها أنا مكسور الظهر ،كنتَ شريك طفولتي وشبابي، وها أنا أُكمل الطريق وحيداً، كل شيء يذكّرني بك: زوايا البيت، المقاعد الفارغة، المقهى الذي اعتدنا أن نجلس فيه، الحكايات التي لم نكملها، والضحكات التي انطفأت في منتصف الطريق.

إن الموت، يا أخي، لا يوجع الراحل بقدر ما يفتك بالباقين. نحن الذين نُترك معلّقين بين الأرض والسماء، نحمل صليب الغياب كل يوم، ونسير مثقلين بما لا يطاق.

منذ أن رحلتَ، صار الليل أعتى، والنهار أشد ثقلاً.. حتى الصلاة صارت بكاءً مستتراً، والدعاء صار مناجاةً محمّلة بالدموع.

يا جمال، إنني أراك في المنام فأستفيق لأجدني أبكي، أراك في الذاكرة فأُدرك أن الذاكرة لا تُعيد الأحياء، أفتش عنك في وجوه الآخرين، فلا أجد إلا سراباً، كأنك كنت العالم كله، وحين غبتَ انهار العالم.

لكنني، رغم كل هذا الحزن، أعلم أنك الآن في رحاب أوسع، في سكينة لا يعكرها وجع ولا يقترب منها ألم أرجو أن تكون في مقامٍ كريم، حيث يرحب الله بأرواح عباده الطيبين.. عزائي أنك رحلت نقياً كما كنت، أبيض القلب، طيب السيرة، وأن ذكراك ستظل نبراساً لنا، مهما أثقلنا الوجع.

سلام عليك يا جمال، سلام على روحك التي لم تُفارقني، سلام على وجهك الذي لن يغيب عن عيني، سلام على ضحكتك التي ستظل تتردد في داخلي ما حييت، نم قرير العين في مثواك الأخير، وسنظل نذكرك بالدعاء، ونُردّد إسمك حتى تلتقي الأرواح من جديد.

سلام عليك في الليل إذا أرخى سدوله، وسلام عليك في الفجر إذا تنفّس، وسلام عليك يوم نلقاك في دارٍ لا موت فيها ولا فراق.