مصطفى صلاح يكتب: السيسى ..حين قال ”لا” فإحترم العالم الكلمة المصرية

في لحظاتٍ من التاريخ، يتوقف الزمن كأنه يلتقط أنفاسه قبل أن يُعيد رسم خرائط العالم من جديد، وفي تلك اللحظات الفاصلة لا تبرز إلا الدول التي تحمل في جوهرها معنى الرسوخ.
ومصر منذ فجر الحضارة، لم تكن يومًا على هامش التاريخ، بل كانت دائمًا في قلبه؛ تصنع اتجاهاته حين تشتعل النيران، وتعيد للعالم توازنه حين تضيع بوصلته.
اليوم، ونحن نعيش فصول المشهد الفلسطيني بكل ما فيه من دماءٍ وأوجاع، كانت القاهرة تقف بثبات المجرِّب العارف؛ لا تندفع خلف العاطفة، ولا تستسلم للضغوط. في زمنٍ ضاع فيه صوت العقل، ظلت مصر تتكلم بلغة الحكمة، وتتصرف على مبدأ أن القوة الحقيقية ليست في السلاح الذي يُشهر، بل في القرار الذي يُتخذ بثقة وهدوء.
لقد أدار الرئيس عبد الفتاح السيسي الأزمة بعقل رجل الدولة الذي يدرك أن في السياسة ميدانًا أخطر من الحرب، وأن النصر أحيانًا يكون في تفادي الصدام لا في خوضه.
كانت القاهرة تعرف أن حدودها مع غزة ليست مجرد خطٍ على الخريطة، بل هي خط تماسٍّ بين التاريخ والجغرافيا، بين المسؤولية والقدر، بين ما تفعله الدول الكبرى ،وما يجب أن تفعله الدولة التي لا تتخلى عن دورها مهما كانت الكلفة.
في الأيام الأولى للأزمة كان العالم يتحدث كثيرًا، لكن مصر وحدها كانت تفعل أرسلت المساعدات، فتحت المعابر، أقامت المستشفيات الميدانية، ورفضت القبول بأي صيغة تهجير أو ترحيل.
هذا الموقف لم يكن مجرد تعبيرٍ عن تضامنٍ إنساني، بل كان بيانًا سياسيًا واضحًا بأن أمن مصر لا يُفصل عن أمن فلسطين، وأن الدفاع عن غزة هو دفاع عن معنى العروبة ذاته.
لقد أدركت القاهرة أن ما يجري ليس حربًا على قطاعٍ ضيقٍ من الأرض، بل اختبارٌ لإرادة المنطقة بأكملها،وحين حاولت القوى الكبرى أن تفرض حلولها الجاهزة، كانت مصر وحدها من قالت «لا» صريحة، قوية، مسؤولة. رفضت أن تكون مجرد قناة تمر منها السياسات، وأصرت أن تكون عقل المنطقة وضميرها.
ولأنها قالت «لا» في الوقت الصعب، وجدت نفسها في موقع القيادة، لم ترفع الشعارات، لكنها فرضت الوقائع. لم تلوّح بالمدافع، لكنها أرغمت الجميع على احترام موقفها، وهنا تحديدًا يتجلى معنى القوة المصرية في أبهى صورها؛ فحين تصمت القاهرة، يصغي العالم، وحين تتكلم، تتحرك البوصلة.
لقد كانت إدارة الأزمة درسًا جديدًا في فن السياسة المصرية: الحذر من الانجرار، والقدرة على المناورة، والتمسك بالثوابت دون عناد، وبالكرامة دون مغامرة.
كان الرئيس السيسي يدرك أن ما يُبنى اليوم على مهل هو أخطر وأعمق مما قد يُنتزع بالسلاح، وكان يعرف أن التهجير الذي حاول البعض فرضه كأمرٍ واقع خطٌ أحمر لن يُسمح بتجاوزه، لأن مصر التي حافظت على هوية المنطقة آلاف السنين لن تسمح بإعادة صياغتها وفق إرادة الآخرين.
في العواصم الأوروبية اكتفى البعض ببيانات الإدانة، وفي المنابر الدولية تكلمت الخطابات عن الإنسانية، لكن الإنسانية الحقيقية كانت تمر من معبر رفح، من قوافل الدواء والغذاء التي عبرت بإشرافٍ مصريٍّ كامل، تحمل رسالة الدولة التي لا تزايد، بل تنقذ. وبهذا الفعل، عادت مصر إلى موقعها الطبيعي: مركز التوازن في الإقليم، ومرجعية القرار حين تشتد الأزمات.
إن العالم وهو يتابع ما جرى بدأ يكتشف أن مصر ليست دولةً تبحث عن مجدٍ جديد، بل تستعيد مجدها القديم بوعيٍ وتجربةٍ وتاريخ، وأن ما فعله السيسي لم يكن مجرد ردّ فعلٍ سياسي، بل استكمالًا لمسيرةٍ بدأت منذ أن قرر هذا البلد أن يكون سيد قراره، من ثورة يوليو إلى نصر أكتوبر، ومن إصلاح الداخل إلى إعادة صياغة موقع مصر على الخارطة الدولية.
اليوم، بعد كل ما حدث، يمكن القول إن القاهرة انتصرت دون أن تُطلق رصاصة، لأنها انتصرت للمعنى الأسمى للسياسة: أن تحمي مصالحك، وتحفظ مبادئك، وتفعل ذلك دون أن تخسر إنسانيتك. ومن يعرف تاريخ هذه الأمة، يدرك أن مصر دائمًا ما كانت تكسب بالثبات ما لا يكسبه الآخرون بالضجيج.
وحين تُكتب هذه الأيام في سجلات التاريخ، سيُذكر أن في زمن الاضطراب العام، كانت هناك دولة اسمها مصر، وزعيمٌ اسمه عبد الفتاح السيسي، اختار طريق الحكمة لا المغامرة، والإصرار لا الانفعال، وحمى الحدود لا بالسلاح وحده، بل بالعقل والسيادة والقرار.
لقد انتصرت مصر، لا لأنها حاربت، بل لأنها منعت الحرب أن تبتلعنا جميعًا. وذلك في جوهره هو النصر الأكبر؛ النصر الذي لا يُرى في الميدان، لكنه يُسجَّل في ضمير التاريخ.