حمدية عبد الغنى تكتب: راغب علامة وحفل ” الإبتذال الفني ”في الساحل الشمالي: حين يهان المسرح بإسم النجومية

في زمن تتلاشى فيه الحدود بين الفن والاستعراض، ويختلط فيه التقدير الجماهيري بالضجيج اللحظي، تبرز بعض المشاهد التي تجبرنا على التوقف، لا لنتأمل جمالًا فنيًا، بل لنرثي ما آل إليه حال المسرح .
ما حدث مؤخرًا في حفل الفنان راغب علامة بالساحل الشمالي ليس مجرد لحظة عابرة من "المرح" كما يظنه البعض، بل إنعكاس صريح لإنحدار خطير في فهم الفن، وفي إحترام المسارح التي طالما كانت منارات للوعي والذوق الراقي.
وسط أضواء الحفل وأمام الجمهور، اعتلت عدد من الفنانات والشخصيات العامة خشبة المسرح، وقمن بإحتضان راغب علامة، وتقبيله بطريقة تكررت أكثر من مرة وبشكل علني.
المشهد خرج عن إطار العفوية أو التقدير الشخصي، وتحول إلى عرض فجّ للإثارة المجانية، خاصة عندما أصبح التفاعل "جسديًا" أكثر من كونه فنيًا.
هذه الصور لم تكن مجرد لحظة خاصة، بل بثّت على مواقع التواصل، وذاعت على نطاق واسع، مخلّفة وراءها حالة من الغضب والاستنكار، سواء من داخل الوسط الفني أو من الشارع المصري الذي ما زال يرى أن المسرح مكان للرُقي لا "العناق العام".
رد الفعل لم يتأخر حيث أصدر مصطفى كامل نقيب المهن الموسيقية، بيانًا غاضبًا أعلن فيه إيقاف راغب علامة عن الغناء داخل مصر، واستدعاءه للتحقيق، مشددًا على أن ما حدث يُعد "سلوكًا مشينًا" لا يتماشى مع العادات والتقاليد المصرية، ولا مع تاريخ الفن الذي بناه عظماء أمثال أم كلثوم، عبد الوهاب، وحليم.
بيان النقابة لم يكن دفاعًا عن الأخلاق فحسب، بل كان إستغاثة: أنقذوا الفن من التحلل تحت عباءة "الشهرة" النقابة بذلك وضعت حدًا لما وصفه مصطفى كامل بـ"الإسقاط المتعمد للقيم"، مشيرًا إلى أن مسارح مصر لا يمكن أن تتحول إلى ساحات إستعراضية تفتقد للهوية والوقار.
في صميم هذه الأزمة يكمن سؤال جوهري: هل فقدنا الإيمان بأن الفن رسالة؟
نشأنا على أصوات تحترمنا قبل أن تُطربنا، على حفلات لا يُلمس فيها الفنان إلا بالأذن، لا باليد، لم نرَى أم كلثوم تُحتضن على المسرح، ولا عبد الوهاب يتبادل القبلات مع معجباته على الهواء، رغم أن مكانتهم تجاوزت الحدود والقرون.
الفن الجاد لا يُباع بـ"تريند" ولا يُكافأ بعناق.. بل يُخاطب العقل والوجدان، لا الغرائز والإنفعالات السطحية، ما حدث مع علامة لا يُحسب عليه كشخص فحسب، بل يُحسب على عصر بدأ يُجرد المسرح من قدسيته، ويُحوّله إلى منصة للفرجة السطحية، لا للإبداع العميق.
بعض الأصوات بررت الموقف بأنه "عفوي"، أو أنه جزء من "الإنفتاح الثقافي"، أو حتى أنه أمر طبيعي في الحفلات العالمية.
لكن هذا الطرح يُغفل أن لكل مجتمع خصوصيته، ولكل خشبة مسرح تاريخها وهويتها، الإنفتاح لا يعني الإنسلاخ، والتطور لا يبرر الإنحدار.
لا أحد يرفض التفاعل أو المرح في الحفلات، لكن ما نرفضه هو أن يتحول المسرح إلى مساحة تجريب للغرائز، لا للغناء.
إن تجاوز الخط الفاصل بين الفن والإبتذال لا يُنهي فقط حفلة، بل يُنهي موروثًا من الإحترام المتبادل بين الفنان وجمهوره.
راغب علامة ليس أول من أخطأ، وربما لن يكون الأخير، لكن المهم هو كيف نواجه هذا التحول؟ وكيف نحمي الفن من التلوث البصري والسلوكي الذي بدأ يغزوه؟.
المسألة ليست ضد شخص، بل ضد سلوك.. ليست ضد حفلة، بل ضد مفهوم جديد للفن يحاول أن يفرض نفسه عبر "المشاهد المثيرة" لا عبر جودة الصوت أو صدق الأداء.
وفي النهاية، تبقى مقولة الموسيقار محمد عبد الوهاب تُلخص الموقف: "الفن الحقيقي لا يصرخ ولا يستعرض.. بل يُسمع ويُحترم."
فهل نستيقظ قبل أن نصحو على مسارح خاوية، لا يُطرب فيها إلا التصفيق لفضيحة جديدة؟