مصطفى صلاح يكتب: قراءة في خطاب الإرادة..وتحليل منشور الرئيس السيسي حول نزاهة الانتخابات
في لحظة دقيقة تتقاطع فيها السياسة بالإرادة الشعبية، ويختبر فيها الوعي الجمعي قوة الدولة ومتانة مؤسساتها، ظهر منشور الرئيس عبد الفتاح السيسي على صفحته الرسمية على موقع “فيسبوك” بمثابة وثيقة سياسية تحمل أكثر مما تُظهر، وتلمّح إلى ما هو أعمق من ظاهر الكلام. المنشور ليس مجرد بيان رسمي، بل هو قراءة مفتوحة في عقل الدولة، وإشارة مبكرة إلى أن إرادة المصريين خط أحمر لا يُمسّ، وأن الدولة – بمؤسساتها العليا – تضع العملية الانتخابية في ميزان العدالة الوطنية بلا تهاون ولا مهادنة.
منشور الرئيس ليس خطابًا انتخابيًا، ولا تلميحًا سياسيًا، بل هو وقفة مراجعة. مراجعة للمشهد، وللتجاوزات، وللمخالفات التي وصلت إلى القيادة، والتي لا يمكن تجاهلها أو السماح بتركها دون محاسبة أو تدقيق. وهنا، تظهر فلسفة الدولة المصرية الحديثة كما أراد الرئيس أن يضعها على الملأ: دولة القانون، دولة المؤسسات، دولة الشفافية، دولة لا تخشى كشف العيوب حين تكون الحقيقة أولى من المجاملة.
أول ما يستوقف القارئ في منشور الرئيس هو تحديد الجهة المنوط بها الفصل في الأحداث والطعون: الهيئة الوطنية للانتخابات “دون غيرها”، وهي هيئة مستقلة وفق القانون. هذا التحديد الدستوري ليس مجرد إجراء تقني، بل رسالة مزدوجة الاتجاه: من ناحية، تأكيد استقلال الهيئة بوصفها العمود الفقري لنزاهة الانتخابات؛ ومن ناحية أخرى، نفي أي تصور لوجود تدخل فوقي أو ضغط سياسي من أي جهة مهما علت.. هنا تظهر روح الدولة القانونية الحديثة: كل مؤسسة تعرف حدود اختصاصها، وكل سلطة تمارس دورها دون تجاوز أو تغول.
ثم ينتقل المنشور مباشرة إلى قلب المسألة، مطالبًا الهيئة بـ التدقيق التام في فحص الأحداث والطعون.. هنا يستخدم الرئيس مفردات تحمل ثقلًا أخلاقيًا: “قرارات تُرضى الله”، “تكشف بكل أمانة عن إرادة الناخبين الحقيقية”. هذه ليست كلمات عابرة، مثل هذه العبارات تنتمي إلى “الأخلاق السياسية”، التي تجعل من القانون ضميرًا حيًا، ومن القرار العام مسؤولية تتجاوز حدود النصوص إلى حدود التقوى والأمانة.
وفي سطر بالغ الدلالة، يشدد المنشور على ضرورة التيقن من حصول مندوب كل مرشح على صورة من كشف الحصر من اللجان الفرعية. هذه التفاصيل الشفافة، التي قد تراها بعض الدول صغيرة، هي في الواقع حجر الزاوية لأي عملية انتخابية نزيهة. إن منح كل مرشح نسخة رسمية من نتائج لجنته الفرعية هو الضمان العملي لعدم التلاعب، وفي الوقت ذاته إعلان صريح بأن الدولة لا تخشى مكاشفة النتائج لحظة بلحظة. الشفافية هنا ليست تجميلًا للمشهد، بل هي أصل من أصول النزاهة.
ومن أعمق النقاط التي تضمنها المنشور، دعوة الرئيس للهيئة إلى إتخاذ القرار الصحيح إذا تعذرت معرفة إرادة الناخبين، حتى لو كان هذا القرار هو إلغاء المرحلة الانتخابية بالكامل أو جزئيًا في دائرة أو أكثر. هذه الجملة تفتح الباب واسعًا أمام قراءة جديدة للدولة: دولة لا تتمسك بالشكل على حساب الجوهر، ولا تقدّس الإجراء إذا شابه شك، بل تعلي الحق ولو تطلّب الأمر إعادة كل شيء من البداية. هذا الموقف، بحد ذاته، هو درس في احترام السيادة الشعبية قبل كل شيء.
ويستكمل المنشور معركة النزاهة من زاوية أخرى: الدعاية الانتخابية. فالرئيس يطلب من الهيئة الإعلان بوضوح عن الإجراءات المتخذة تجاه المخالفات التي وصلت إليها، حتى تتحقق الرقابة الفعّالة، ويعود الالتزام بالقانون إلى موضعه الطبيعي. هنا يتضح أن الرئيس لا ينظر إلى الانتخابات كصناديق فقط، بل كنظام شامل يبدأ بالدعاية وينتهي بإعلان النتائج. إنها عملية لا ينبغي أن يلوثها مال سياسي، ولا إعلام مغرض، ولا تأثير خارج إطار القانون.
وإذا حاولنا النظر إلى المنشور ككل، لا كسلسلة جُمل، فسنجده يرسّخ أربعة مبادئ أساسية:
أولًا: سيادة القانون
حين يصرّ الرئيس على أن الهيئة الوطنية وحدها صاحبة القرار، فهو يعيد الجميع إلى أصل ثابت: لا صوت فوق صوت القانون.
ثانيًا: الشفافية الكاملة
من الحصول على صور محاضر الفرز، إلى الإعلان عن مخالفات الدعاية، يمد المنشور شبكة شفافية ممتدة تمنع أي تلاعب أو تضليل.
ثالثًا: احترام الإرادة الشعبية
التلويح بإلغاء الانتخابات عند تعذر معرفة إرادة الناخبين هو أقوى رسالة سياسية في المنشور، وأوضح دليل أن صوت المواطن هو الأصل الوحيد.
رابعًا: محاسبة المخالفين
سواء في الدعاية أو الفرز أو السلوك الانتخابي، المنشور يطالب بإجراءات واضحة لا تترك مجالًا للظنون أو الإفلات من العقاب.
بهذا، يصبح المنشور – في جوهره – بيانًا فلسفيًا حول “معنى الدولة العادلة” كما يتصورها الرئيس. دولة لا تترك أخطاء الصغار لتمر، ولا تتغاضى عن تجاوزات الكبار، دولة تراقب وتعيد الفحص، وتلغي إن لزم الأمر، وتعيد الانتخابات إن اقتضى الواجب، لأن الأصل هو “إرادة الشعب”، وليس “شكل العملية”.
ويختم الرئيس منشوره بالهتاف الثلاثي “تحيا مصر”؛ لكنه هذه المرة ليس مجرد شعار وطني، بل توقيع على وثيقة سياسية تقول: هذه دولة لا تُباع إرادتها، ولا يُشترى صوتها، ولا يقف فيها أحد فوق الشعب.






