السيناريست عماد النشار يكتب: ” السميعة ..حراس التلاوة وشهود المقام” بعد أن اكتشفنا الأصوات..من يحرس المقام؟
حين نجح برنامج «دولة التلاوة» في إعادة لفت الأنظار إلى جمال الأصوات القرآنية الجديدة، وأثبت أن ألحان السماء ما زالت تتجدّد في حناجر شابة تحمل ملامح المدرسة المصرية العريقة، لم يكن ذلك النجاح محض صدفة تلفزيونية، بل مؤشرًا واضحًا على تعطّش الجمهور إلى محتوى يُنصت إلى التلاوة بوصفها فنًا ووجدانًا وهوية.
غير أن كل صوتٍ صعد إلى المنبر، وكل مقامٍ استقرّ في الذاكرة، كان يقف خلفه حضورٌ خفيّ لا يقلّ أثرًا ولا أهمية.
السميعة ،أولئك الذين سمعوا قبل الميكروفون، وميّزوا قبل التصفيق، وصانوا الميزان حين كان الخلل يُلتقط بالأذن لا بالكاميرا.
من هذه الزاوية غير المطروقة إعلاميًا، يطلّ برنامج «السميعة… حُرّاس التلاوة وشهود المقام»، بوصفه امتدادًا فكريًا وثقافيًا لتجربة «دولة التلاوة»، لا من حيث اكتشاف الأصوات، بل من حيث كشف الذاكرة السمعية التي صنعت هذه الأصوات ووجّهت مسارها.
البرنامج ثقافي توثيقي، يقدّم فئة السميعة بوصفهم شركاء أصيلين في صناعة تاريخ التلاوة القرآنية، لا جمهورًا متلقيًا، ليصبح السمع هو بطل الحكاية.
ينطلق البرنامج من إعادة تعريف دور السمع بوصفه عنصرًا فاعلًا في حفظ المقامات، وتقييم الأداء، وصون المدرسة المصرية في التلاوة عبر الأجيال.
فالبرنامج لا ينافس على جمال الصوت وحده، بل يفتح المجال أمام،دقّة السمع،الوعي بالمقام،
التمييز بين المدارس والأساليب للفهم التراثي للأداء القرآني.
شهود المقام: السميعة الكبار وخزائن الذاكرة في قلب البرنامج، تحضر فقرة السميعة الكبار باعتبارها الركيزة الأساسية التي يقوم عليها البناء كله.
هنا لا نستضيف ضيوفًا عابرين، بل رواة الذاكرة الشفوية للتلاوة المصرية؛ أولئك الذين عاصروا مشايخ القرّاء، وحفظوا في ذاكرتهم ما لم يُدوَّن، وفي خزائنهم تسجيلات لم تُذَع أو لم تُتداول على نطاق واسع.
يقدّم كبار السميعة شهاداتهم الحيّة، وحكاياتهم الإنسانية، وكواليس جلسات التلاوة، وكيف كان السميعة يتدخّلون لتوجيه المقام أو تصحيح المسار، ولماذا حُجبت بعض التلاوات رغم فرادتها.
وإلى جانب تشغيل المقاطع النادرة، يُشرح سياقها الزمني والإنساني، ليصبح الاستماع فعلَ فهمٍ لا مجرّد تلقٍّي.
هذه الفقرة ليست إضافة شكلية في البرنامج، بل عنصرًا حاسمًا فيه؛فالأصوات يمكن إعادة اكتشافها دائمًا،أمّا الذاكرة الشفوية، إذا رحلت، فلا تعود.
ولا يتوقف البرنامج عند حدود التوثيق، بل يبني معادلته الأساسية على انتقال السمع والمعرفة، لا على الحنين وحده، بل بثلاثة أجيال و أذن واحدة.
ولهذا، يجمع في كل حلقة بين ثلاثة أجيال من السميعة،كبار السميعة رواة الذاكرة وحُرّاس التراث ،وجيل الوسط شهود التحوّل من المجالس إلى الميكروفون والمنصات الرقمية،لسميعة الشباب، أذن الغد، تُختبر وتُدرَّب وتُمنح حق الانتماء إلى هذا الإرث.
في هذا التلاقي، تُروى الذاكرة، ويُحلَّل الحاضر، ويُصان المستقبل، في بناء حيّ يمنح البرنامج امتدادًا زمنيًا يتجاوز النوستالجيا.
ولا تقف قيمة البرنامج عند حدود البث التلفزيوني، بل تمتد طبيعيًا إلى المنصات الرقمية،في علاقة تُبنى لا تُستهلك،حيث تتحوّل لحظات الحكي الصادق، والمقاطع النادرة، والجمل المكثّفة إنسانيًا، إلى محتوى قابل للتداول والمشاركة.
هنا لا تُعاد التلاوة بوصفها أداءً صوتيًا فقط، بل بوصفها قصة وذاكرة وشهادة، ما يساهم في بناء علاقة وجدانية متينة بين البرنامج والمشاهد، قائمة على الإنصات والثقة، لا على الاستهلاك السريع.
بصريًا، يعتمد البرنامج على لغة إخراجية هادئة تحترم قدسية التلاوة،إضاءة دافئة تستحضر مجالس السماع القديمة، كاميرا قريبة من الوجوه أثناء الحكي، ومونتاج صوتي يمنح التلاوة الأولوية المطلقة، مع احترام الصمت بوصفه جزءًا من المقام.
خلاصة الفكرة
إذا كان القارئ قد سجّل صوته،
فإن السميعة سجّلوا الذاكرة.
«السميعة… حُرّاس التلاوة وشهود المقام» ليس برنامجًا يُشاهَد فحسب،بل مشروع ذاكرة مصوّرة، يعيد الاعتبار للسمع الواعي، ويحوّل التراث من مادة محفوظة إلى خبرة حيّة تُنقَل من أذنٍ إلى أذن، ومن جيلٍ إلى جيل.
فبعد أن اكتشفنا الأصوات،حان الوقت أن نستمع إلى من علّمونا كيف نسمع.
وختامًا..إذا كان «دولة التلاوة» قد أعاد اكتشاف الأصوات،
فإن «السميعة… حُرّاس التلاوة وشهود المقام» يقترح خطوة تالية أكثر عمقًا،إعادة اكتشاف الأذن التي صنعت هذه الأصوات، وحفظت جمالها، ونقلت سرّها من جيل إلى جيل.
ومن هنا جاءت لي فكرة هذا البرنامج، ليأخذ تلك الفكرة إلى قنوات جديدة،لتعمل على عرضه، ليصل إلى جمهور أوسع ويشارك في بناء ذاكرة سمعية حيّة تنقل التراث بكل تفاصيله.
إنه برنامج لا يراهن على المسابقة، ولا على الحنين،بل على الذاكرة حين تُحفظ وتُصان في وقتها.




