مصطفى صلاح يكتب: ”وطن السلام”..مصر تخاطب العالم بلغة الفن والكرامة
تحت قبة الضوء، وأمام أنفاس التاريخ، ولدت احتفالية «وطن السلام» لا كعرضٍ فني عابر، بل كبيانٍ حضاري يعيد إلى الفن المصري مكانته القديمة: منبرًا للوعي، ورسالةً للإنسان، وصوتًا للوطن حين يتحدث بلسان الجمال.. في تلك الليلة التي اجتمعت فيها الألوان والأصوات تحت راية مصر، كان المشهد أكبر من حفل، وأعمق من احتفال؛ كان صورةً لمصر وهي تستعيد لغتها القديمة: لغة الفن حين يكون فكرًا، والوطن حين يكون معنى.
في قلب هذا المشهد برز إسم المنتج عمرو كمال، المشرف العام على الإحتفالية، لا كمنظّمٍ للحدث بل كمهندسٍ للرؤية، وصائغٍ للمعنى.. بدا حضوره كحضور الفنان الذي يعرف أن الصورة ليست مجرد إضاءة، وأن اللحن ليس مجرد نغمة، وأن الفن لا يكتمل إلا إذا صار رسالة إنسانية في ثوبٍ جمالي، استطاع أن يصوغ من «وطن السلام» خطابًا بصريًا وروحيًا يعيد تعريف مصر أمام نفسها والعالم: مصر التي لا ترفع راية الحرب، بل راية الوعي، ولا تُصدر الدمار، بل تصدر النور.
لقد جاءت الاحتفالية كحالة من الاتزان بين الفكرة والوجدان، بين الروح والعقل، كانت الأغنية فيها بيانًا وطنيًا، واللحن سيرة حضارية، والعروض الفنية خريطةً رمزية لرحلة مصر منذ فجر التاريخ حتى لحظتها الراهنة.. الفن هنا لم يكن مجرد فن، بل كان مرآةً للسياسة في معناها النبيل، وامتدادًا لفلسفة الجغرافيا البشرية التي تحدث عنها حمدان نفسه: مصر حين تكتب فنها، تكتب جغرافيتها الروحية.
عمرو كمال في رؤيته للإنتاج الفني بدا كمن يربط بين الماضي والحاضر بخيطٍ من الذهب، يعلم أن الفن ليس نقيضًا للفكر، بل جناحه الثاني.
رأى في «وطن السلام» فرصة لاستعادة الوظيفة الأصلية للفن المصري: أن يكون حاملًا لهوية الأمة ومجسّدًا لضميرها الجمعي. لم يكن الهدف مجرد نجاحٍ بصري أو جماهيري، بل بناء ذاكرة جديدة، تستحضر انتصارات أكتوبر، وتعيد السلام إلى معناه الأعمق، السلام الذي يبدأ من الإنسان قبل أن يعم الأرض.
في كل تفصيلة من تفاصيل الإحتفالية بدا الحس الوطني كأنه إيقاع خفي يسري في الصورة والصوت والحركة. اختيار المواقع، إدارة الإضاءة، التتابع الدرامي، كل ذلك جاء محمّلًا برؤية فكرية تجعل من الجمال أداة للتعبير عن الكيان، وكأن عمرو كمال أراد أن يقول إن الفن هو جغرافيا أخرى للوطن، وإن مصر تُرسم بالصوت كما تُرسم بالتراب، وإن الأمة التي تفقد حسها الجمالي تفقد نصف وجودها.
«وطن السلام» لم يكن احتفالًا بانتصارٍ قديم، بل إعلانًا عن ميلاد وعيٍ جديد.. فقد بدا وكأنه يعيد تعريف معنى الانتصار ذاته: ليس فقط عبور الجيوش، بل عبور الوعي من الحرب إلى البناء، ومن الصراع إلى التنوير، كان المشهد حوارًا بين الماضي والمستقبل، بين بطولات أكتوبر ورؤية الحاضر، بين دماءٍ سالت لتحيا الأرض، وأصواتٍ تُغني اليوم من أجل أن يزدهر الإنسان.
وهكذا جمع عمرو كمال بين الفن والتاريخ في معادلةٍ دقيقة، لم تكتفِ بتوثيق الحدث بل حاولت أن تفسّره، فالفن عنده ليس مرآةً للماضي بل بوصلةٌ للمستقبل. ومن خلال احتفالية «وطن السلام»، أرسل رسالة فكرية مفادها أن السلام ليس ضعفًا بل وعيًا، وأن الفن الذي يعزف للحياة هو في حقيقته مقاومة ضد العدم.
لقد جسدت الاحتفالية جوهر مصر الحقيقي: وطنٌ يرفض الانغلاق، ويقاوم بالثقافة، ويؤمن أن الجمال نوع من الوطنية. كان الفن فيها لغةً ثالثة لا تحتاج إلى ترجمة، لأن كل لحن وكل مشهد وكل صورة كانت تقول بوضوح إن مصر، منذ فجر التاريخ، لم تكن يومًا بلدًا للضجيج، بل بلدًا للمعنى.
من يشاهد «وطن السلام» يدرك أن عمرو كمال لا يصنع مجرد عروضٍ فنية، بل يكتب سطورًا في كتاب الوعي الجمعي للأمة. إنه يدرك أن العمل الفني قد يكون في قوته وعمقه معادلًا لقرارٍ وطني، وأن الأغنية حين تصدق قد تعادل معركة وعي بأكملها. الفن عنده ليس ترفًا، بل مسؤولية حضارية، لذلك جاءت بصمته في الاحتفالية أشبه بتوقيع المثقف على وثيقة روح الوطن.
وهكذا يتحول «وطن السلام» إلى أكثر من إحتفالية، إلى درسٍ في الجمال والهوية، وإلى بيانٍ ثقافيٍّ مكتوبٍ بالنغمة والضوء. ويظل عمرو كمال في قلب هذا المعنى شاهدًا على أن الفن حين يلتقي بالوعي يصنع التاريخ، وأن مصر حين تتحدث عبر فنّها، إنما تكتب لنفسها شهادة بقاءٍ لا تزول، لأن السلام فيها ليس شعارًا سياسيًا، بل عقيدة جغرافية وضميرًا وطنيًا متجذرًا في وجدانها منذ أول حضارة كتبت اسمها على وجه الأرض.

