الموجز اليوم
الموجز اليوم

مصطفى صلاح يكتب: لا حصانة إلا تحت القبة..معركة تنقية الحياة السياسية من المال السياسى

لم يعد ممكنًا أن يظل المشهد الانتخابي يغطّي نفسه بالشعارات بينما الواقع ينزع عنه كل ستار، لقد وصل المجتمع إلى لحظة مواجهة قسرية مع ذاته، لحظة تضعه أمام مرآة لا ترحم، تُظهر القبح كما هو، وتكشف ما اعتدنا إخفاءه لسنوات طويلة، في مشهد انتخابات مجلس النواب الحالية، بدا واضحًا أننا أمام مرحلة لم تعد تحتمل التجمل، ولا الالتفاف، ولا الادعاء.. ما كان يُقال همسًا أصبح يُرى جهارًا، المال السياسي يُصرف بلا مواربة، الأصوات تُشترى بلا حياء، ومرشحون يعرف الناس تاريخهم أكثر من معرفتهم بصوتهم، ومع ذلك يظهرون، ويخطبون، ويعدون، وكأن المجتمع أصيب بعمى انتقائي يسمح له أن يرى ما يحب ويتجاهل ما يكره.

المؤلم أن جزءًا من هذا التشوه لم يولد في ليلة، ولم يصنعه الفاسدون وحدهم؛ بل ساهم فيه مجتمعٌ مارس التواطؤ بدرجات متفاوتة.. بعضهم صمت، وبعضهم برّر، وبعضهم شارك، وبعضهم اكتفى بالقول: “وماذا سيحدث لو أخذنا شيئًا مقابل الصوت؟ البعض يفعلها.” هنا تكمن الكارثة، ليس فقط في وجود فاسد، بل في صناعة بيئة تسمح له أن ينمو، وتمنحه الشرعية الاجتماعية التي لم يعد يخجل من الاستناد إليها. فالمجتمع الذي يقبل الرشوة الصغيرة، سيعتاد على الفساد الكبير، والمجتمع الذي يساوم على صوته، سيجد نفسه يومًا يساوم على حقوقه، وكرامته، ومستقبله.

الانتخابات التي تبدأ بالمال ستنتهي بحكم المال. والمقعد الذي يُشترى اليوم سيُستثمر غدًا، ليس لصالح الناس، بل لصالح من دفع ثمنه، والمرشح الذي يدخل السباق محاطًا بأكياس من الوعود المالية يعرف تمامًا أنه لا يشتري أصواتًا فقط، بل يشتري صمتًا لاحقًا، ويشتري تسامحًا مع أخطائه، ويشتري أعذارًا جاهزة حين يُحاسَب، ولذلك فإن الدعوة إلى إعادة الانتخابات ليست فوضى، ولا خروجًا عن الشرعية، بل محاولة لإعادة التوازن قبل أن ينهار كل شيء فوق رؤوس الجميع.

لكن هذا وحده لا يكفي. .فهناك باب آخر لا بد من إغلاقه، لأنه الجسر الذي يعبر عليه الفساد إلى داخل البرلمان: الحصانة خارج البرلمان، هذه الحصانة التي تحوّلت ـ عبر السنوات ـ من أداة لحماية النائب أثناء عمله، إلى سترٍ لمن هم غير جديرين بالسترة، وإلى مظلة تحتمي تحتها مخالفات لا تُحصى. ولعل أكثر ما يكشف سوء استخدام هذه الحصانة هو أن العديد من الدول الديموقراطية الكبرى لا تعتمدها بهذا الشكل، وعلى رأسها هولندا التي لا تمنح نائبًا أي حصانة خارج مقاعد البرلمان، بحيث يُحاسَب كنائب ويُحاسَب كمواطن بلا تمييز.

إلغاء الحصانة خارج البرلمان ـ مساواة بالنظام الهولندي ـ ليس ترفًا تشريعيًا، بل ضرورة لإنقاذ العملية السياسية من نفسها. فحين يعلم المرشح أن الحصانة لن تُستخدم درعًا له في الشارع أو في مكاتب المصالح أو في النزاعات، سيتردد كثيرًا قبل أن يُنفق أمواله في شراء الأصوات. وحين يدرك أن القانون سيطارده مثل غيره، لن يجد في البرلمان ملاذًا ولا حصنًا ولا حماية إضافية. هنا، تتراجع الرشاوى تلقائيًا، وينسحب المغامرون، ويختفي الباحثون عن المنافع الخاصة، ويترشح فقط من يرغب في أداء وظيفة عامة لا أكثر.

إن الحصانة خارج البرلمان لم تُفسد النواب وحدهم، بل أفسدت نظرة المجتمع إلى البرلمان نفسه, الناس لم تعد ترى الحصانة كأداة لحماية المصلحة العامة، بل كأداة للهرب من المحاسبة. ولذلك فإن إلغاءها خطوة لا تستهدف الأفراد، بل تستهدف استعادة الثقة. الخطوة ليست ضد النواب، بل ضد الفساد الذي يستخدم النواب ليمرّ. ليست ضد المؤسسة، بل لصالح المؤسسة.

أما الخطوة الأكثر حساسية ـ لكنها الأكثر ضرورة ـ فهي منع أي مرشح ثبت فساده أو تورطه في الرشوة أو استخدام المال السياسي من الترشح مرة أخرى نهائيًا مدى الحياة. المجتمع الذي يفتح الباب دومًا لعودة الفاسدين هو مجتمع يحكم على نفسه بالدوران في دائرة مغلقة من الفشل. لا يمكن بناء حياة سياسية محترمة بينما الوجوه التي أفسدت الأمس قادرة على التحكم في الغد. لا معنى لإصلاح انتخابي يستمر في تدوير نفس الأسماء التي تلوثت، وأُدينت اجتماعيًا حتى إن لم تُدان قضائيًا.

لا يوجد إصلاح بلا تطهير، ولا يوجد تطهير بلا استبعاد واضح وصريح لمن شارك في تلويث العملية الانتخابية. والغربلة ليست إجراءً انتقاميًا، بل قانون طبيعي لأي نظام يريد الاستمرار. مثلما ينقي الفلاح بذوره، يجب على المجتمع أن ينقي ممثليه. ومثلما يقطع الطبيب العضو التالف من الجسد، يجب على الدولة أن تقطع الطريق أمام المتلاعبين الذين يقتاتون على ثغرات النظام.

إن إلغاء الحصانة خارج البرلمان، وإلغاء الانتخابات المشوبة بالفساد، ومنع الفاسدين من العودة، ليست خطوات سياسية فقط، بل خطوات لإنقاذ صورة المجتمع أمام نفسه. لأن المشكلة الأكبر ليست في وجود الفاسد، بل في قبول المجتمع له ما دام المجتمع يسمح له بالعودة، فهو شريك،وما دام الناس يتعاملون مع شراء الصوت كأمر عادي، فهم جزء من المشكلة، وما دامت الرشوة الانتخابية تُرى كفُرصة، فلن يتغير شيء.

إن الإصلاح الحقيقي يبدأ حين يرفض المجتمع الرشوة، وحين يرفض أن يرى فاسدًا يعود ليطلب ثقته، وحين يرفض أن يكون البرلمان ملجأً للمخالفات. يبدأ حين يفهم الناس أن ثمن الصوت ليس مائتي جنيه، بل مستقبل بلد كامل. وأن النائب الذي يشتري الصوت اليوم، سيبيع مصالحهم غدًا. وأن من يدخل البرلمان عبر المال لا يمكن أن يحكم إلا بالمال.

وفي النهاية، فإن تنظيف الحياة السياسية لا يبدأ بالقوانين، بل يبدأ بالقرارات الشجاعة. القرار بإلغاء الحصانة خارج البرلمان ليس مجرد إجراء؛ بل رسالة. والقرار بمنع الفاسدين من الترشح ليس صدامًا؛ بل حماية. والقرار بإعادة الانتخابات ليس اضطرابًا؛ بل استعادة لما ضاع.

لقد آن الأوان أن يفهم الجميع أن البرلمان ليس بابًا مفتوحًا لكل طامع، ولا جائزة لمن يملك المال، ولا منصة لمن يجيد المناورة. البرلمان يجب أن يكون مكانًا لمن يحمل ضميرًا حيًا، وبصيرة واضحة، ويدين لا ترتعشان حين تُوضع على ملفات الناس.

وحتى يحدث ذلك، يجب أن يُغلق الباب أمام الفاسدين، ويُفتح فقط أمام من يستحقون. هذه هي البداية الحقيقية لأي إصلاح… وما لم تبدأ، فلن يبدأ شيء بعدها.