مصطفى صلاح يكتب: حين يجهل الصغر ذاكرة الكبار..رد إلى طه دسوقي ومن على شاكلته

ثمة ما يؤلم في هذا الزمن أكثر من الجهل ذاته، وهو من يستخف بالفكر الفني يفتقر إلى وعيٍ بتاريخ المهنة، وأن يطلّ على الناس بثقة لا تليق إلا بمن قرأ التاريخ كله ثم صمت، وحين يخرج أحدهم ليهزأ من الصحافة الفنية، وكأنها شذوذ عن الصحافة أو فرع من التسلية، ندرك أننا أمام أزمة وعي لا أزمة رأي.
تلك كانت ملامح ما قاله الفنان طه دسوقي، وكأنه يتحدث من شرفة العالم العارف، بينما التاريخ يبتسم من بعيد بسخرية لا تخفى.
يا طه، الصحافة الفنية ليست صدى لصورتك، بل هي الأصل الذي وثّق فنّ من سبقوك حين كان الفن رسالة لا إعلانًا.. هي المرآة التي حفظت ملامح مصر الثقافية، من الأوبرا إلى المسرح، من السينما إلى الكلمة، يوم كانت الكلمة تُصاغ في محراب الفكر لا في استوديوهات البهرجة.
إنك يا طه تتحدث عن مهنة عمرها من عمر الوعي المصري نفسه، مهنة سبقتك بعقود من الضوء والعرق، ووضعت اللبنات الأولى لصناعة الفن التي تحاول أنت اليوم السير فوق أطلالها.
لقد كان في مصر نقّاد وصحفيون يكتبون عن الإبداع كما يكتب المؤرخ عن الأمم، كانوا يزنون الأداء بميزان الفن لا بالتصفيق، ويقيسون الموهبة بمدى إسهامها في الوجدان الجمعي لا بعدد المتابعين، وحين تتحدث أنت — وأمثالك — باستخفاف عن الصحافة الفنية، فإنك لا تهاجم الصحافة، بل تهين الذاكرة التي حفظت إسم الفن ذاته، وتكفر بالتاريخ الذي صنع لك المساحة لتتكلم.
يا طه، الصحافة الفنية كانت هناك حين لم تكن الكاميرا قد وُجدت بعد، وكانت الكلمة وحدها هي العدسة التي ترى وتُبصر وتُخلّد. كانت المهنة تكتب عن يوسف وهبي، نجيب الريحاني، فاتن حمامة، وسعاد حسني، قبل أن يولد جيلك بعقود ،لم تكن ترفًا، بل كانت ضمير الفن، كانت جسرًا بين الفنان والجمهور، حين كان الفن يُبنى على الفكر لا على الدعاية، وحين كان الحوار بين المبدع والناقد طقسًا من طقوس التنوير، لا مواجهة بين «مُنتَج» و«مُعلِن».
أما اليوم، فقد ضاع المقياس، صار بعض الفنانين يختبئون وراء مكاتب العلاقات العامة، يردّون على الأسئلة ببيانات باردة، ويخشون من النقد كما يخشى الضعيف من الحقيقة، ثم يخرجون على الناس ليحاضروا في معنى الصحافة وكأنهم أنبياء الوحي الفني، أيُّ مفارقة هذه! لقد صار الجهل متحدثًا رسميًا بإسم الوعي، والسطحية ناطقة بإسم العمق.
إن الصحافة الفنية ليست باباراتزي ولا فضولًا ولا تسلية كما توهم، بل علمٌ قائم بذاته، يجمع بين النقد والتحليل والتوثيق. فيها من الصرامة ما يجعلها منبرًا فكريًا لا يقل عن الصحافة السياسية أو الاقتصادية.. فهي التي كشفت زيف الزبد، وأنصفت الموهبة، ورفعت الوعي حين كان الجهل يسود الشاشات.
يا طه، لا تُخطئ فهم التاريخ.. إنك حين تتحدث باستهانة عن الصحافة الفنية، فأنت تتحدث باستهانة عن مهنة أقدم من شهرتك وأرسخ من صورتك. فالأسماء تمرّ، أما الكلمة فتبقى. والمقال الذي كتبه صحفي منذ خمسين عامًا عن نجيب محفوظ، ما زال يُقرأ اليوم، أما المقابلة التلفزيونية التي أجريتها الأسبوع الماضي، فقد ابتلعها النسيان مع أول خبرٍ جديد.
تعلم أن التاريخ لا يرحم من يتحدث بغير معرفة، والتاريخ يا طه ليس شاشة، بل ذاكرة أمة. وما دامت الصحافة الفنية قد حفظت أسماء الكبار الذين سبقوك، فهي أيضًا من تملك حق أن تضعك في موضعك الحقيقي، بين الموهبة والادعاء، فاحذر من أن تكون مجرد رقم عابر في سجلّ من لا يقرؤون.
الفن يا طه بلا نقدٍ واعٍ يصبح زبدًا على وجه النهر، جميلًا للحظة، هشًا عند أول تيار، أما الصحافة الفنية فهي النهر نفسه، تفيض حين تجفّ الذاكرة، وتُذكّر حين ينسى الناس المعنى.. هي ضمير الفن المصري، وصوت الحقيقة حين يصمت الجميع.
ليس في ردّنا عليك نزق ولا غيرة، بل دفاع عن ذاكرة وطن، عن حرفة لا ترفع الأقلام إلا بقدر ما تزن العقول.. نحن لا نحاكمك، بل نحاكم زمنًا سمح لصوتٍ بلا قراءة أن يتحدّث باسم الوعي، ولولا أن الكلمة واجب، لصمتنا، لأننا نعرف أن بعض الأصوات لا تستحق حتى الرد، لكن احترامنا للفن وتاريخه فرض علينا أن نضع النقاط فوق الحروف.
فتذكّر يا طه: أن من يستهين بالكلمة، سيأتي يوم تستهين به الكلمة، وأن من يظن أن التاريخ يبدأ عنده، سينتهي عند أوّل صفحة لم يُذكر فيها اسمه، أمّا الصحافة الفنية التي تراها «باباراتزي» فهي التي ستكتب هذا المشهد الأخير، كما كتبت من قبل ملاحم الكبار.
ولتعلم أنت ومن على شاكلتك أن الجهل لا يبني مجدًا، وأن الضوء الحقيقي لا يُصنع من الكاميرا، بل من الفهم، فمن لم يقرأ التاريخ لا يستحق أن يتحدث عن الحاضر، ومن لم يعرف قدر الصحافة لا يستحق احترامها.
هكذا يا طه، القضية ليست شخصك، بل جيلٌ بأكمله يظن أن «الترند» شهادة ميلاد، وأن «المتابعين» جمهور خلود.. بينما الخلود الحقيقي هناك، في أرشيف الصحافة الفنية، بين سطور نقادٍ كتبوا بالدمع لا بالحبر، وبالحب لا بالمصالح.
فاحفظ لسانك أمام الذاكرة، لأن الذاكرة حين تغضب لا تنسى، والتاريخ حين يكتب لا يجامل.