الموجز اليوم
الموجز اليوم

مصطفى صلاح يكتب: طبلة سياسية ..صوت عالى ومبدأ واطى

هناك في الحياة العامة شخصيات لا تحتاج إلى أن تُسمّيها، فمجرد وصفها يجعلها تقفز فورًا إلى ذهن الناس، كأنها علامة تجارية مسجلة في سجل النفاق الوطني.

شخصية لا تتحرك إلا في إتجاه واحد: إتجاه المصلحة، لكنها تغيّر الطريق كل يوم، مرة يسار، مرة يمين، ومرة إلى الخلف إذا كان هناك من يدفع .. هو ليس إعلاميًا ولا سياسيًا ولا حتى صاحب رأي.. هو أشبه بـ"ريشة" عالقة في مروحة غرفة، تلف وتلف وتظن نفسها ريحًا.

من السهل جدًا أن تميّزه بين الوجوه، لأنه الصوت الوحيد الذي يسمع نفسه قبل أن يسمع غيره، والوحيد الذي يتحدث عن الوطنية وكأنه حصل على عقد امتياز حصري لبيعها بالتجزئة.

تجد في ملامحه شيئًا من رجل عاش طول عمره يبحث عن مرآة تمجده، ولا يجد فيها إلا انعكاسًا باهتًا، فيقرر أن يكبر صوته بدلًا من أن يكبر عقله.. هذا النوع من الأشخاص لا يحب الوطن، بل يحب الوقوف بجانبه في الصورة فقط، كإكسسوار موسمي لا يظهر إلا عند اللزوم.

وهو يشبه تلك السجادة القديمة التي تُقلب كل فترة لتغطية بقعة جديدة. يبدأ حياته ثائرًا، ثم يصبح مؤيدًا، ثم يعود معارضًا، ثم يعود مؤيدًا مرة أخرى، كأن مواقفه جدول حصص أسبوعي وليس مسارًا فكريًا، في عهد، كان يعلن أن الزعيم السابق “لا يُعوّض”، وفي اليوم التالي كان يعلن أن الثورة هي الطريق الوحيد للخلاص، ثم في اليوم الذي يليه كان يهاجم الثورة ويتهمها بالتآمر، ثم يعود ليقول إنه كان من صانعيها، رجل يشبه جهاز الراديو القديم الذي يلتقط كل المحطات لكنه لا يستقر على واحدة.

وما يثير السخرية أن تاريخه مع كل نظام سياسي موجود بالكامل على “يوتيوب”، لكنه يتصرف كأن الناس بلا ذاكرة!

كان من المصفقين بحماس شديد للنظام قبل سقوطه، ثم التحق بموكب الثورة ببدلة جديدة، ثم لم تمض أيام حتى صار جزءًا من الفريق الذي يهاجم الثورة نفسها، ثم عاد ليظهر كأحد كبار المدافعين عن استقرار الدولة.. يغير اتجاهه السياسي كما يغير البعض نبرة هواتفهم المحمولة، كل شيء عنده “مود” قابل للتعديل.

ومع كل هذا التنقل، يخرج على الناس بوجه وطني متجهّم، وصوت جهوري يشبه ماكينة كهرباء قديمة تعمل بصوت أعلى من إنتاجها، يتحدث عن الشرف الوطني كأنه أحد حرّاسه، وعن المبادئ كأنه مخترعها، وعن التاريخ كأنه مؤلفه، هو لا يحب الوطن في الحقيقة، لكنه يحب تمثيل دور الرجل الذي يحب الوطن، والفارق بينهما كالفارق بين الممثل على المسرح وبين صاحب القضية الحقيقي.

والأطرف من ذلك كله أنه نسخة حديثة جدًا من “محجوب عبد الدايم” في فيلم “القاهرة 30”، نفس الروح الانتهازية، نفس القدرة على الانحناء بسلاسة، نفس الموهبة في بيع المبادئ على الرصيف بسعر الجملة.. "محجوب" كان يبيع نفسه من أجل وظيفة.. أما هذا فباع مواقفه، وتاريخه، وصوته، وحتى صراخه، من أجل البقاء تحت ضوء الكاميرا، محجوب القديم كان يخجل قليلًا… أما نسخته الحديثة فتمتلك شجاعة من نوع خاص.. شجاعة أن تكون بلا خجل.

هو مثل قطعة إسفنج تمتص كل خطاب جديد وتعيد عصره على الناس كأنه الحقيقة المطلقة.. مرة يتحدث بلسان اليسار، ومرة بلسان اليمين، ومرة بلسان الوطن الغاضب، ومرة بلسان المواطن الفقير، وكل مرة هو نفسه لا يؤمن بشيء فيها سوى بقاء صورته على الشاشة، كأنه يبدل جلده كل موسم مثل بعض الحيوانات، لكن الفرق أن الحيوانات تغيّر جلدها لتنمو.. وهو يغير جلده ليظل صغيرًا كما هو.

ومن يراقب رحلته الطويلة يدرك أن الرجل لا يسير في خط مستقيم، بل يتحرك كدراجة بلا توازن.. لا تقف إلا إذا تحركت، ولا تتحرك إلا إذا دفعتها يد من الخلف، كل مرة يظهر فيها على الشاشة يبيع للمشاهدين قناعة جديدة، ويقنع نفسه قبل غيره أنه صاحب موقف مبدئي ثابت، مع أنه لم يثبت على شيء سوى التلوّن.

والعجيب أنه يتحدث عن “الوعي” كأنه أحد صنّاعه، مع أنه في الحقيقة نموذج حيّ للوعي الزائف، وعي يصنع ضوضاء، لكنه لا يصنع معرفة، وعي يضرب على الطبول لكنه لا يعرف اللحن، وعي يناقض نفسه في الدقيقة الواحدة عشر مرات، لكنه يطلب من الناس أن تصدّق أن هذا التناقض جزء من عبقريته.

إنه ذلك النوع من الرجال الذي يظن نفسه “ضمير الأمة”، بينما لا يرى في المرآة إلا ضميرًا منفوخًا بالهواء، رجل يعتقد أن قوته في صوته، لكن الحقيقة أن الصوت العالي لا يغطي خواء المواقف، كما أن الطبل لا يتحول إلى درع لمجرد أنه يصدر ضوضاء.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أنه ناجح بما يكفي ليظل موجودًا، فالمشهد السياسي دائمًا بحاجة إلى شخصيته: رجل يجيد تمثيل دور الوطني، ويجيد مهاجمة أي طرف يطلب منه الهجوم عليه، ويجيد تبديل المصطلحات كما يبدل مقدمات برامجه، مثل “بطل خارق” من نوع مقلوب.. بدل أن ينقذ المدن من الفساد، ينقذ نفسه من الهزيمة في كل مرحلة.

وكلما ظننت أنه وصل إلى أقصى درجات المبالغة، فاجأك بما هو أعلى، وكلما حسبت أن الناس اكتشفت ألاعيبه، عاد بثوب جديد وكلمات جديدة، كأن الذاكرة الجمعية مجرد شاشة يُعاد ضبطها.

وفي النهاية، الحقيقة الواضحة أنه لا يمثل إلا نفسه، ولا يقاتل إلا من أجل مساحته على الشاشة، ولا يصرخ إلا لحماية صورته، ولا يرفع شعار الوطن إلا كديكور أمام الكاميرا.. رجل يعيش على الحافة دائمًا، لكنه لا يسقط… لأنه ببساطة لا يحمل وزنًا ليسقط، فالفارغ لا يهبط.

ولو عاد محجوب أفندي للحياة ورآه، لابتسم ابتسامة حزينة وقال: “لقد تطورنا… حتى النفاق أصبح أكثر حداثة”.